أبو ذر.. عندما لا يخشى المؤمن في الحق لومة لائم
"يا معشر الأغنياء والفقراء.. بشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تُكوى بها جباهُهم وجنوبُهم وظهورُهم".. عبارةٌ تعبر عن قائلها، وقائلها هو محامي الفقراء الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري المجاهِر بالحق، وأحد كبار رموز الإصلاح في التاريخ الإسلامي قاطبةً، وأحد أهم النماذج على تحدي السلطة الظالمة عندما تنسى الله سبحانه وتعالى ولا تحكم بما أنزل.
عاش حياته ثائرًا على أوضاع خاطئة وممارسات خالفت صحيحَ الدين، قام بها بعضُ الولاة الأمويين، سواءٌ إبان حكم الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان أو في مطلع عهد الدولة الأموية، فكان نصيبه منهم الاضطهاد، إلا أنه لم يركن كثيرًا لذلك، فقد عرض نموذجًا للمؤمن إذ لا يخشى في الحق لومة لائم.
مَن هو أبو ذر الغفاري؟
هو جندب بن جنادة بن عبيد بن سفيان بن حرام بن غفار الغفاري، وينتهي نسبه إلى إلياس بن مضر، وكني بـ"أبو ذر"، لم يُعرف له تاريخُ ولادة على وجه الدقة، إلا أنه رضي الله عنه تُوفي في السنة الثانية والثلاثين للهجرة في عهد الدولة الأموية.
وفي طبقات "ابن سعد" والأعلام لـ"الزركلي" وُلد- رضي الله عنه- في مكة المكرمة، وكان يتألَّه في جاهليته، وكان لا يعبد الأصنام ويقول كلمة الحق، ولما سمع ببعثة الرسول- صلى الله عليه وسلم- اتجه إلى مكة مع أخيه وقابل الرسول- صلى الله عليه وسلم- وحيَّاه بتحية الإسلام، وهو أول من حيَّاه بها، فبايع الرسول- صلى الله عليه وسلم- على ألا تأخذه في الله تعالى لومة لائم، وأن يقول الحق ولو كان مرًّا.
وقد جاء إسلام أبو ذر في وقت مبكر من تاريخ البعثة المحمدية؛ حيث كان رابعَ أو خامسَ من أسلموا، وذهب إلى قومه (غفار) ليدعوهم إلى الإسلام بناءً على طلب من الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأسلم على يديه كثير من العرب هناك.
قصة إسلامه رضي الله عنه
روى أبو ذر رضي الله عنه قصة إسلامه في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ألا أخبركم بإسلام "أبو ذر"؟! قال: قلنا بلى. قال: "قال أبو ذر: كنت رجلاً من غفار، فبلغنا أن رجلاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي انطلِق إلى هذا الرجل كلِّمه وأتني بخبره، فانطلَق فلقيه ثم رجع، فقلت ما عندك؟ فقال والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشر، فقلت له: لم تشفني من الخبر، فأخذت جرابًا وعصا، ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد، قال فمر بي عليٌّ، فقال كأن الرجل غريب. قال: قلت: نعم؛ قال فانطلق إلى المنزل قال فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء، قال فمر بي علي فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزلَه بعد، قال: قلت لا. قال: انطلق معي، قال: فقال ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له إن كتمت عليَّ أخبرتك، قال: فإني أفعل. قال: قلت له بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفِني من الخبر، فأردت أن ألقاه، فقال له: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنتَ، فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي- صلى الله عليه وسلم- فقلت له: اعرض عليَّ الإسلام فعرضه فأسلمتُ مكاني، فقال لي يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورُنا فأقبل، فقلت والذي بعثك بالحق لأصرخنَّ بها بين أظهرهم، فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال يا معشر قريش إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا فضُربت لأموت، فأدركَني العباس فأكبَّ عليَّ ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم تقتلون رجلاً من غفار ومتجركم وممرّكم على غفار، فأقلعوا عني، فلما أن أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فصُنع بي مثلُ ما صُنِع بالأمس، وأدركني العباس فأكبَّ عليَّ وقال مثل مقالته بالأمس، قال فكان هذا أول إسلام "أبو ذر" رحمه الله.
أبو ذر إذ يتحدى السلطان
قاد أبو ذر الغفاري أول ثورة اجتماعية في الإسلام، وكانت موجهةً بالأساس ضد الولاة الأمويين ممن حكموا في بلاد الشام على عهد الخليفة عثمان بن عفان؛ حيث تصدى لكافة صور البذخ والغنى الفاحش، وطالب بإعادة النظر في عملية توزيع أموال بيت مال المسلمين، مع محاولته التصدي لمظاهر الاستبداد وأمراض الحكم، ومنها استغلال السلطة التي كانت قد بدأت تدبُّ في أرجاء بعض الولايات الإسلامية التي كان يحكمها عمالٌ من بني أمية؛ مما أدى إلى أنْ غضِب معاوية بن أبي سفيان- الذي كان يحكم الشام في ذلك الوقت- وأهل بيته منه.
وكان مرجعه الأول في هذا الصدد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، مع تأثره الشديد بفترة حكم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حيث ساد الحكم العادل في كافة الأمور المتعلقة بالدولة على مختلف المستويات السياسية والمالية وغير ذلك، وكان فساد بني أمية قد بدأ في الظهور؛ مما ضايق كثيرًا شخصيةً مثل "أبو ذر" رضي الله عنه.
فكان يخطب في الناس في بلاد الشام بعد أن نُفي إليه ليكون تحت سمع وبصر معاوية فيقول: "يا معشر الأغنياء والفقراء.. بشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نارٍ تُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم".
وعلى ذلك حاول بنو أمية إرهابَه بتبني مجموعة من الأساليب لإرجاعه عن هذا الطريق ومنها التهديد والتجويع، وكان ردُّ "أبو ذر" الغفاري رضي الله عنه على ذلك: "إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل، ولَبَطن الأرض أحب إليَّ من ظهرها، والفقر أحب إليَّ من الغنى".. كذلك حاول بنو أمية نبذ أبو ذر اجتماعيًّا وإبعاد الناس عنه، مع محاولة فضحه بالباطل عبر إعطائه الأموال بغير حق، ولما لم يفلحوا في ذلك تم قطع عطائه من بيت مال المسلمين من أجل الضغط عليه.
وفاته رضي الله عنه
جاءت وفاة "أبو ذر" في العام الثاني والثلاثين للهجرة في الربذة- وهي مدينة تبعُد مائتي كيلو متر عن المدينة المنورة- وقد بلغ من شدة زهده وتقشفه أن بكت امرأتُه لحظة احتضاره؛ لأنها لم تجد ما تكفِّنه به، رغم أنه لو كان استمع لبني أمية لكُفِّن في الحرير والعطر، ولكنه- رضي الله عنه- أبَى إلا أن يلاقيَ ربه طاهرًا من دنس الدنيا، طامعًا في رحمته ومغفرته وجزيل عطائه في الآخرة.